الرواية- رحلة النفس بين المكان والزمان

المؤلف: عبده خال11.17.2025
الرواية- رحلة النفس بين المكان والزمان

من الجليّ أن الحياة تتطور وتنتقل من مرحلة إلى أخرى، وهذا التحول يستلزم قوة دافعة، سلطة نافذة تسمح للوجود بالتبلور والتشكل بصورة مغايرة لما ألفناه. هذا التغير يتضمن غالباً إضافة عناصر جديدة أو إزالة أخرى قديمة. والسلطة، في سياق حياتنا المعاصرة، تتمثل في العلم الذي يزودنا بمفاهيم مبتكرة، وغالباً ما تصحح هذه المفاهيم تصوراتٍ قديمة رسخت في أذهاننا وأصبحت بمثابة حقائق بديهية. ولكن، الادعاء بأن أمرًا ما بديهي يشكل حاجزًا منيعًا يمنع أي إضافة أو تغيير. لحسن الحظ، هناك عقول نيّرة تسعى جاهدة لتغيير هذه المسلمات واكتساب آفاق جديدة، ممّا يسمح للوجود بأن يتبلور في صورة جديدة، تستمر بدورها كبديهية إلى أن يأتي وقت تتغير فيه إلى ما هو أحدث وأكثر تطوراً.

إن تطور الحياة لا يلتفت إلى المسلمات والثوابت، بل يركز على المتغيرات والتحولات المستمرة. ففي خضم هذه الحركة الدائمة، لا يوجد شيء ثابت. والمتغير بطبيعته يقض مضجع الساكن. فقذفة حجر صغير كفيلة بتغيير سطح نهر أو بحر هادئ وساكن..

الكون عبارة عن دوائر متداخلة، لكل منها مركزها الخاص، والمركز الرئيس تتشكل فيه أنماط هندسية فريدة، لإتاحة المجال للتغيير والتطور. فالحركة لا طائل منها في ظل السكون أو ثبات المركز! لذلك يجدر بنا التأمل في قوله تعالى: (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، (29) الرحمن. فكل حركة تنطلق من مركزية خاصة بها، وتتفاعل جميع الدوائر وفقًا لمركزية الدائرة الكبرى، أو ضمن إرادة الحقيقة المطلقة. فكل المفاهيم قابلة للتغيير والتبدل، إلا الله عز وجل، فهو المتواجد الأزلي في الذوات، كمركز أصيل يحرك كل شيء بإرادته.

ولكن، ما العلاقة بين هذا الكلام والرواية؟

الحياة، من بدايتها إلى نهايتها، عبارة عن حكاية، سرد له بداية وذروة ونهاية. وكما يفتتن الناس بنتائج اكتشافات العلماء في أعماق الفضاء أو المحيطات، أو في عالم الحيوان والحشرات، دون الالتفات إلى أعماق النفس البشرية وتغيراتها، يأتي الروائي ليسبر أغوار هذه النفس ويكشف عن تضاريسها المعقدة. ولا أدل على ذلك من أن علم النفس قد نهض وازدهر بالاستناد إلى روايات ديستوفسكي العميقة.

منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، ما الذي تغير في الأمكنة والمعارف؟ الإجابة هي الكثير بالطبع! فكما تتوالد فروع الحياة وتتشعب، تتوالد المعارف وتتراكم. وكل معرفة جديدة تدفع الدنيا إلى طور مغاير لما كانت عليه (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا).

وعبر آلاف السنين، كانت الحياة تسير في ثلاثة أبعاد: الطول والعرض والارتفاع. حتى جاء آينشتاين بالبعد الرابع الذي أسماه الزمن. وبافتراض أن الزمن هو العامل المتغير في الأشياء، استقر الفهم على هذا التصور. ولكن، لو حركنا الكراسة قليلاً، لما كان هناك زمن، بل سيتواجد المكان كعنصر رئيس. ومع التغييرات التي تحدث للمكان، نشعر بالزمن. وهذا الشعور ليس حقيقة مطلقة، بل هو حقيقة افتراضية. فالمكان هو المهيمن في كل التغيرات. وكل الأبعاد هي حالة أخرى وصل إليها العقل البشري مؤخرًا، ألا وهي نظرية الأوتار، ومن المؤكد أن العقل سيصل إلى نظريات أكثر قرباً من الصواب.

ونظرية الأوتار هي منتج رياضي تصوري، يفترض أن الكون في حالة وترية حلقية، وأخرى مغلقة متناهية الصغر، لا سمك لها، وهي في حالة عدم استقرار. وقياس التذبذب يرتبط بموقع الوتر، وتغير موقعه يجعل الراصدين يشعرون بالزمن. فالزمن إذن هو شعور ينتابنا من خلال تغير المكان..

ويمكن إعادة طرح السؤال: ما علاقة كل هذا بالرواية؟

حسنًا، المتعارف عليه أن الروائي يسير في سرده وفق المثلث الأرسطي بثلاثة أبعاد وهي (المكان والزمان والشخصية). والمفاهيم الراسخة ترى أن الزمن ضرورة سابقة على الأبعاد الحياتية التي نسير بها. بينما الزمن مطاوع ومرن في السرد، وغالبًا ما يستأثر بالماضوية، خاصة في الرواية، التي هي في حالة (كان)، بينما الكون في حالة (كن). وأمر (كن) جاء وفقًا لتغير المكان. لنعد مرة أخرى إلى أبعاد الروائي أثناء الكتابة.. بدءًا ووفق المتعارف عليه، هناك زمن خارجي (المكان) وزمن داخلي (وهو النفسي). وبمقارنة الحالتين، نلاحظ أن زمن الحلم ثوانٍ معدودة، بينما في الواقع الخارجي يكون الوقت أكبر بكثير عما هو عليه في الحلم.. وقد أجريت تجربة لمزارع بالتنويم المغناطيسي، مطالبين إياه بعد الوردات التي يشاهدها. وعندما يصل في عده إلى 2,000 وردة، ينطق بأنه عد العدد المطلوب. وكانوا يقيسون الزمن بين البداية والنطق ببلوغه 2,000، فوجدوه ينطق بوصوله للعد المطلوب، ولم يستغرق سوى عشر ثوان. فيكون الزمن مغايرًا بين المنوم وبين الملاحظ، وفي الحالتين كان المكان هو المؤشر لحساب الزمن.. كما أننا تعارفنا معرفة شبه يقينية بأن هناك أزمانًا مختلفة (زمن الملائكة، زمن الجان، زمن القبر، وزمن الضوء، وزمن الصوت). وفي هذه الأزمان تم إغفال المكان، بينما هو الأساس. وإذا قلنا إن كل حركة لها زمن، يفترض أن نقول إن كل حركة لها مكان وليس زمانًا.

في بداية حياتي (حينما كنت يافعاً)، كنت شغوفًا بفكرة الأراضي السبع. ومع انشغالي بالقراءة والكتابة، توصلت إلى حل للأراضي السبع في رواية الطين (حل يرضيني أنا شخصيًا على الأقل). فتغيرات المكان وتشكلاته أحالتني إلى سرعة النفس، وسرعة المكان أيضًا، إذ يكمن التغير. هذا إذا اعتبرنا هياكلنا البشرية هي الأمكنة، وأي تغير في النفس يشعرنا بالزمن.

من تلك المراهقة الأولى (وآمل ألا أوصم بالمراهقة الفكرية)، في ذلك الوقت كان المكان هاجسي عندما كنت أبحث عن الأراضي السبع. فجدلية المكان والسرعة تكون الشعور بتغير الزمن.. وهذه المعضلة الزمانكية يقف عليها السارد، فالسرد متغير من مكان لآخر وفق الكلمة أو الجملة، فالساردة الشعبية تقول:

(بلاد تشله وبلاد تحطه)، فالزمن لديها هو المكان وليس الزمان، أو القول انتقل من جدة إلى تبوك، فالمكان معروف في ذهنية الساكن لمدينتين، وإن غابت على المستمع تفاصيل المكان ستكون ذكرى المدينتين متخيلة بالمكان وليس بالزمان والساكن للمكانين يعرف التغيرات المكانية، وقياسه الزمني بتلك المتغيرات يكون بسبب تغير المكان.

وإذا كانت أبعاد السارد هي (المكان والزمان والشخصية)، وقد قمت بدمج الزمانكية في عنصر واحد وهو المكان، تصبح الشخصية كنفس متحركة أثناء السرد (والنفس مكان تسكن في هذا الجسد).

وإذا أردنا الاستشهاد بقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172) الأعراف. من هذه الآية الذي حضر هو المكان (ممثلاً بالنفس) وليس هناك زمن، فالنفس حضرت، وفقدت الإدراك فيما بعد هذه الواقعة، أي أن المكان تغير، وإذا قرأنا الآية نقول وفق المفهوم الزمني راسباً في مخيلتنا إن حدث في زمن لا نعلمه، ولكن نؤمن بحضورنا والنطق بالشهادة في مكان بعينه لا يعرفه إلا الله..

والنفس حضورها في السرد يتشكل وفق مواصفاتها الداخلية، إذ إن لها ثماني حالات مثبتة إيمانياً، فأنواع النفس هي:

اللوامة (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)، والراضية (ارجعي إلى ربك راضية)، المرضية (ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي)، والمطمئنة (يا أيتها النفس المطمئنة)، والأمّارة (وما أبرّئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء)، والملهمة (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها)، والكاملة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)، والزكية (قتلت نفسا زكية).

وقد دأبت على سن الأفكار لكل رواية أكتبها، فالأفكار سابقة للحكاية بالنسبة لي، تلك الأفكار تتنقل بين شخصيات العمل، لا أذكر أني كتبت رواية ثنائية، بل أنفس متشابكة بأفكارها وطبيعتها وتنوعها بين الأنفس الثماني، حتى إذا تجمعت في عمل واحد حدثت الدراما بين تلك الأنفس، بحثاً عن التكامل، فالناقص يجبر، والمنحرف يعدل، والشر يخفف، والخير ينمو من خلال ذهنية القارئ الباحث عن اكتماله الإنساني.

وكل سرد هو محاولة إصلاح لتلك النفس، والأدب يسعى لإصلاحها من خلال القيم العظيمة حتى ولو كان الشر طاغياً في العمل الروائي فإنه يظهر المقابل له تماماً، ويحفز نفسية القارئ للانتقال إلى الضفة الأخرى ليسمو بنفسه.

*

هذا فحوى ما سوف أتحدث عنه في أمسية الغد المقامة بصالون (ضاد) الثقافي بالتعاون مع الشريك الأدبي، في المدينة المنورة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة